فصل: تفسير الآية رقم (30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (30):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [30].
{وَقَالَ الرَّسُولُ} أي: إثر ما شاهد من عتوهم وعنادهم: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} أي: متروكاً، معرضاً عنه. وجملة: {وَقَالَ الرَّسُولُ} عطف على: {وقال الذين لا يرجون} وما بينهما اعتراض، سيقت لانتظام ما قالوه، وطلب النصر عليهم واستنزال الفرج الإلهيّ مما أضاقوا به الصدور، وجلبوه من الكدور، وللإشارة إلى ما يحيق بهم من شقاء الدارين.
تنبيه:
الآية، وإن كانت في المشركين، وإعراضُهم هو عدم إيمانهم، إلا أن نظمها الكريم مما يرهب عموم المعرضين عن العمل به، والأخذ بآدابه. الذي هو حقيقة الهجر. لأن الناس إنما تعبدوا منه بذلك. إذ لا تؤثر تلاوته إلا لمن تدبرها. ولا يتدبرها إلا من يقوم بها ويتمسك بأحكامها.
ومن فوائد الإمام ابن القيم رحمه الله. قوله في هذه الآية: هجر القرآن أنواع:
أحدها: هجر سماعه والإيمان به والإصغاء إليه.
والثاني: هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه، وإن قرأه وآمن به.
والثالث: هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، واعتقاد أنه لا يفيد اليقين، وأن أدلته لفظية لا تحصل العلم.
والرابع: هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلوب وأدوائها. فيطلب شفاء دائه من غيره، ويهجر التداوي به.
قال: وكل هذا داخل في هذه الآية، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض. انتهى.
وفي الإكليل: إن في الآية إشارة إلى التحذير من هجر المصحف وعدم تعاهد بالقراءة فيه. وكذا قال أبو السعود: فيه تلويح بأن من حق المؤمن أن يكون كثير التعاهد للقرآن، كيلا يندرج تحت ظاهر النظم الكريم. ثم قال: وفيه من التحذير ما لا يخفى. فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذا شكوا إلى الله تعالى قومهم، عجل لهم العذاب ولم يُنظروا. ثم ذكر تعالى ما يكون أسوة لنبيه، وتسلية له، ووعداً بالنصرة، بقوله:

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [31].
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً} أي: إلى ما يبلغك ما تتمناه: {وَنَصِيراً} أي: لك على كل من يناوئك. ثم أشار تعالى إلى مقترح خاص بالتنزيل الكريم، بقوله:

.تفسير الآيات (32- 33):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [32- 33].
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} أي: دفعة واحدة في وقت واحد. وقد بين سبحانه بطلان هذه المماراة والحمقاء بقوله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي: نقوّيه به على القيام بأعباء الرسالة، والنهوض لنشر الحق بين قادة الجهالة. فإن ما يتواتر إنزاله لذلك، أبعث للهمة وأثبت للعزيمة وأنهض للدعوة، من نزوله مرة واحدة: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} أي: فصلناه تفصيلاً بديعاً، لا يلحق شأوه ولا يدرك أمده.
قال القاشانيّ: الترتيل هو أن يتخلل بين كل نجم وآخر، مدّة يمكن فيها ترسخه في قلبه، وأن يصير ملكة لا حالاً: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ} أي: بصفة عجيبة من باطلهم في قدح أو مقترح: {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي: الذي يقمع تلك الصفة. كما قال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [18]، {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي: بياناً وهداية، عناية بك وبما أرسلت من أجله، وخذلاناً لأعداء الحق وخصوم الرشاد.
تنبيه:
يذكر المفسرون هاهنا أن الآية رد على الكفرة في طلبهم نزول القرآن جملة، كنزول بقية الكتب جملة. ويرون أن القول بنزول بقية الكتب دفعة، صحيح. فيأخذون لأجله في سرّ مفارقة التنزيل له. والحال أن القول بنزولها دفعة واحدة لا أصل له، وليس عليه أثارة من علم، ولا يصححه عقل. فإن تفريق الوحي وتمديد مدته بديهيّ الثبوت. لمقدار مكث النبيّ. إذ ما دام بين ظهراني قومه، فالوحي يتوارد تنزله ضرورة. ومن راجع التوراة والإنجيل الموجودين، يتجلى له ذلك واضحاً لا مرية فيه. وعذر القائل به ظنه أن الآية تعريض بنزول غيره كذلك. وما كل كلام معرّض به. وإنما الآية حكاية لاقتراح خاص، وتعنت متفنن فيه. والله أعلم.

.تفسير الآيات (34- 36):

القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} [34- 36].
{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} وهم فرعون وقومه. والآيات الخوارق التسع. أي: فذهبا إليهم. فأرياهموها فكذبوها: {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} أي: بالإغراق في البحر.

.تفسير الآيات (37- 39):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} [37- 39].
{وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} يعني نوحاً. وجُمع تعظيماً لرسالته. أو هو ومن تقدمه عليهم السلام: {أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَاباً أَلِيماً وَعَاداً} يعني قوم هود: {وَثَمُودَا} بالصرف وعدمه. قراءتان. على معنى الحي أو القبيلة: {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} اسم بئر. ونبيهم قيل: شعيب، وقيل غيره. ويروي هنا بعضهم آثاراً منكرة لا تصح. كما نبه عليه الحافظ ابن كثير رحمه الله. فلا يحل الجراءة على روايتها، ولا تنزيل الآية عليها. لأنه من قَفْو ما ليس للمرء به علم. ومثله يحظر الخوض فيه {وَقُرُوناً} أي: أقوماً: {بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً وَكُلّاً ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ} أي: الأنباء التي تزجر عن الكفر والفساد: {وَكُلّاً تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} أي: إهلاكاً عظيماً.

.تفسير الآية رقم (40):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} [40].
{وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} أي: أهلكت بالحجارة وهي قرى قوم لوط: {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} أي: في مرورهم، ينظرون إلى آثار عذاب الله ونكاله؟ وفيه توبيخ لهم على تركهم الذكر، عند مشاهدة ما يوجبه: {بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً} أي: كفرة، لا يتوقعون عاقبة وجزاءً.

.تفسير الآيات (41- 42):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [41- 42].
{وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} أي: يستهزئون قائلين ذلك. والإشارة للاستحقار. لأن كلمة هذا تستعمل له. وعائد الموصول محذوف. أي: بعثه. ورسولاً حال منه: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا} أي: أنه كاد لَيصرفنا عن عبادتها صرفاً كلياً، لولا أن ثبتنا عليها.
قال الزمخشريّ: فيه دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وبذل قصارى الوسع والطاعة في استعطافهم، مع عرض الآيات والمعجزات عليهم، حتى شارفوا بزعمهم، أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام، لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} جواب منه تعالى لأخر كلامهم. وفيه وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال. ولابد للوعيد أن يلحقهم، فلا يغرنهم التأخير.

.تفسير الآية رقم (43):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} [43].
{أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} تعجيب للنبيّ صلوات الله عليه من شناعة حالهم، بعد حكاية قبائحهم من الأقوال والأفعال.
قال الزمخشريّ: من كان في طاعة الهوى في دينه، يتبعه في كل ما يأتي ويذر، ولا يتبصر دليلاً، ولا يصغي إلى برهان، فهو عابد هواه وجاعله إلهه. فيقول تعالى لرسوله: هذا الذي لا يرى معبوداً إلا هواه، فكيف تستطيع أن تدعوه إلى الهدى؟ أفتتوكل عليه وتجبره على الإسلام؟ وتقول: لابد أن تسلم، شئت أو أبيت. ولا إكراه في الدين. وهكذا كقوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22].

.تفسير الآية رقم (44):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [44].
{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} أي: منهم. لأن الأنعام تصرف قواها إلى طلب ما ينفعها، والنفرة مما يضرها. وهؤلاء عطّلوا قواهم وهي العقول التي يهتدى بها للحق، ويميز بها بين الخير والشر. ثم أشار تعالى إلى بعض دلائل التوحيد، وما فيها من النعم العظمى الجديرة بأن تتلقى بالشكر لا بالكفر، كحال هؤلاء الكفرة بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (45):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} [45].
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} أي: عجيب صنعه أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس: {وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} أي: ثابتاً على حاله، من الطول والامتداد. من السكنى أو غير متقلص من السكون بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد فلم ينتفع به أحد: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} أي: علامة يستدل بأحوالها في مسيرها على أحوال الظل، من كونه ثابتاً في مكان، زائلاً ومتسعاً ومتقلصاً. فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه، على حسب ذلك.

.تفسير الآيات (46- 47):

القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} [46- 47].
{ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا} أي: أنزلناه بعد ما أنشأناه ممتداً، ومحوناه بمحض قدرتنا ومشيئتنا عند إيقاع شعاع الشمس موقعه: {قَبْضاً يَسِيراً} أي: على مهل، قليلاً قليلاًَ حسب ارتفاع دليله على وتيرة معينة مطردة مستتبعة لمصالح المخلوقات ومرافقتها. وفي هذا القبض اليسير، شيئاً بعد شيء، من المنافع ما لا يعد ولا يحصر. ولو قبض دفعة واحدة، لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً} أي: ساتراً كاللباس: {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} أي: راحة للأبدان تستعيض به ما خسرته من قواها: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} أي: زمان انتشار لطلب المعاش.

.تفسير الآيات (48- 49):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} [48- 49].
{وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً} أي: ناشرات للسحاب وفي قراءة {بشراً} بضم الموحدة بدل النون وسكون الشين، أي: مبشرات: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي: قدام المطر. وهي استعارة بديعة. استعيرت الرحمة للمطر ثم رشحت. كقوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} [التوبة: 21]، وجعلها بين يديه تتمة لها. لأن البشير يتقدم المبشر به. ويجوز أن تكون تمثيلية. و{بشراً} من تتمة الاستعارة، داخل في جملتها. ومن قرأ {نشراً} كان تجريداً لها. لأن النشر يناسب السحاب: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} أي: مطهراً، لقوله: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. وهذه الآية أصل في الطهارة بالماء.
قال القاضي: وتوصيف الماء به إشعار بالنعمة فيه، وتتميم للمنة فيما بعده. فإن الماء الطهور أهنأ وأنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته. وتنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها، فبواطنهم بذلك أولى: {لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} أي: بإنبات النبات: {وَنُسْقِيَهُ} أي: ذلك الماء: {مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} قال الكرخي: خص الأنعام بالذكر، لأنها ذخيرتنا ومدار معاش أكثر أهل المدر. ولذلك قدم سقيها على سقيهم، كما قدم عليها إحياء الأرض. فإنها سبب لحياتها وتعيشها، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعاشهم.

.تفسير الآيات (50- 52):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [50- 52].
{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} أي: كررنا هذا القول الذي هو ذكر إنشاء السحاب وإنزال القطر: {بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} أي: ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} أي: كفران النعمة وجحودها: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} أي: نبياً ينذر أهله فيخف عليك أعباء النبوة. لكن لم نشأ ذلك، فلم نفعله. بل قصرنا الأمر عليك حسبما ينطق به قوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [1]، إجلالاً لك وتعظيماً، وتفضيلاً لك على سائر الرسل.
وقال المهايمي: أي: لكن لم نشأ. لأنه يقتضي تفرق الأمم، وتكثر الاختلافات. فجعلنا الواحد نذيراً للكل ليطيعوه أو يقاتلهم. والكفار يريدون أن يطيعهم الرسل أو يتركوهم على ما هم عليه: {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} أي: فقابل ذلك بالثبات والاجتهاد في الدعوة وإظهار الحق والتشدد والتصبر. ولا تطعهم فيما يريدونك عليه. وأراد بهذا النهي، تهييجه وتهييج المؤمنين، وتحريكهم. أي: إثارة غيرته وغيرتهم. وإلا فإطاعته لهم غير متصورة.
وقال أبو السعود: كأنه نهي له، عليه الصلاة والسلام، عن المداراة معهم، والتلطف معهم. أي: لأن في ذلك إضعافاً للحق وتغشية عليه. وطول أمد في سريانه. ولذا قال: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} أي: بالقرآن وما نزل إليك من الحق: {جِهَاداً كَبِيراً} أي: لا يخالطه فتور، بأن تلزمهم بالحجج والآيات، وتدعوهم إلى النظر في سائر الآنات، لتتزلزل عقائدهم، وتسمج في أعينهم عوائدهم. وهذه الآية من أصرح الأدلة في وجوب مجادلة المبطلين، ودعوتهم إلى الحق بقوة، والتفنن في محاجتهم بأفانين الأدلة. فإن الحق يتضح بالأدلة. كما أن الشهور تشتهر بالأهلّة.